ما هو الإرث السياسي لمحمود عباس؟

Newspaper Article
Ibrahim Fraihat (aka Ibrahim Sharqieh)
Ibrahim Fraihat (aka Ibrahim Sharqieh)
+ More
ما هو الإرث السياسي لمحمود عباس؟
Written: By S-CAR
Author: Ibrahim Fraihat
Publication: Al Hayat
Published Date: September 11, 2015
Topics of Interest: Middle East, Politics
URL:

يبدي رؤساء الدول في أواخر عهدهم اهتماماً خاصاً بإرثهم السياسي (Legacy) الذي ستتذكره بهم شعوبهم لاحقاً. يحدث هذا ليس فقط في الأنظمة الديموقراطية، بل في الشمولية أيضاً وحتى الأنظمة القمعية التفردية منها. الرئيس الفلسطيني، وقد قارب على نهاية عهده السياسي لا يفترض أن يكون الاستثناء. فما هو الإرث السياسي للرئيس محمود عباس؟ وهل يبدي اهتماماً مشابهاً بهذا الإرث كما يفعل رؤساء آخرون؟ وهل ستشكل قراراته الأخيرة بالاستقالة من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والدعوة إلى عقد جلسة طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني جزءاً من إرثه السياسي؟
الرئيس الأميركي باراك أوباما وقد بقيت له سنة أخيرة في الحكم، وسيشكل الاتفاق النووي الإيراني المثير للجدل وقرار الانسحاب من العراق وأفغانستان والذي ووجِه أيضاً بنقد من خصومه الجمهوريين، جزءاً مهماً من إرث أوباما السياسي، سيكون التاريخ وحده الحكم على قرارته وتأثيرها في موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي. وقبل أوباما ترك جورج بوش الابن إرثاً سياسياً يتمثل بما عرف بـ «الحروب الاستباقية» التي جرت الويلات على الولايات المتحدة، كما ترك كلينتون إرثاً سياسياً طويلاً تمثلت أهم محطاته بإنهاء الحرب في إرلندا الشمالية وتوقيع اتفاق الجمعة العظيمة، وإنهاء الحرب في البوسنة وتوقيع اتفاق دايتون، والتدخل العسكري في هايتي 1994 لاستعادة العملية الديموقراطية وإعادة الرئيس أريستيد إلى الحكم. ومثلث «البيريسترويكا» الإرث السياسي لميخائيل غورباتشوف هو السياسة التي حاول بها إصلاح النظام السياسي وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي.
الإرث السياسي للرئيس لا يمثل بالضرورة إنجازاً وطنياً لبلده، بل قد ينتهي رئيس دولة ما بإرث سياسي معيب يحدد مكانته في التاريخ وتتذكره به الأجيال المقبلة. الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خرج من البيت الأبيض بإرث سياسي قائم على فضيحة ووترغيت، وبقي الفشل في إنقاذ الرهائن الأميركيين المحتجزين في إيران عام 1980 إرثاً سياسياً ملازماً للرئيس كارتر طوال حياته. وهذا يقودنا إلى التساؤل عن الإرث السياسي للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
أولاً، يجب الاعتراف بأن إرثه السياسي لم يكتمل بعد، ذلك لأن حكمه كرئيس للسلطة الفلسطينية لم ينته حتى الآن. فبإمكان الرئيس اتخاذ قرارات معينه قد تشكل إرثه السياسي المستقبلي، سواءً بتحقيق إنجاز وطني للقضية الفلسطينية أم نكسة لها، فالرئيس عباس ما زال أمامه الوقت ليحدد مكانته في التاريخ الفلسطيني وشَكل إرثه السياسي المستقبلي.
ثانياً، يجب الاعتراف بأن الرئيس عباس يعيش آخر عهده في الحكم، سواءً بسبب تقدمه في السن أم بقرار ذاتي منه بالتنحي، كما أشار هو نفسه في مناسباتٍ عدة، وقد يكون انسحابه من المشهد السياسي بسبب مطالبته من الشعب الفلسطيني بالرحيل إذا استمر انسداد الأفق السياسي وغياب الرؤيا الوطنية التي تجابه الهجمة الاسرائيلية المسعورة على الأرض والإنسان، سواء في قرية دوما أو القدس أو غيرها.
الإرث السياسي للرئيس عباس في هذه اللحظة أمر مثير للجدل ومختلف عليه. فمعارضوه مثلاً يتذكرون موقفه من المقاومة الفلسطينية وتصريحه الشهير عن «الصواريخ العبثية»، وكذلك تنازله عن حقه الشخصي في العودة إلى مدينة صفد. أما مؤيدوه فيتذكرون تعريته ومحاصرته قيادة الاحتلال على الساحة الدولية، واقترابه من الاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى في التاريخ المعاصر، ودخوله كدولة مستقلة في المحكمة الجنائية الدولية ومنظمة اليونيسكو وغيرهما.
وبغض النظر عن مواقف المؤيدين والمعارضين هناك حقائق لا يمكن إغفالها في تقويم إرثه السياسي، وهي أن الانقسام الفلسطيني - والذي من الممكن أن يتحول من موقتٍ إلى دائم إن لم تتم معالجته الآن - حدث في عهده، واقتراب فلسطين أكثر من أي وقت مضى من الاعتراف العالمي بها كدولة مستقلة أيضاً حدث في عهده.
وعليه، فأين تقف الخطوات الأخيرة التي اتخذها عباس من الاستقالة من اللجنة التنفيذية ودعوة المجلس الوطني الفلسطيني إلى جلسة طارئة من إرثه السياسي؟ قد يدفع البعض إلى الكثير من التفسيرات، لكن الحقيقة قد تكون آخذة بالتبلور: أن هذه الخطوات وللأسف قد تؤسس لانقسام فلسطيني جديد من جهة، وتقوض الدور الوطني الذي لعبته مؤسسات منظمة التحرير كالمجلس الوطني واللجنة التنفيذية تاريخياً. هذه القرارات قد تحرف مؤسسات منظمة التحرير عن دورها التاريخي كجامع وطني لتصبح أداة للانقسام الوطني، ناهيك عن تعزيزها التفرد والسلطوية في الحكم.
في البدء، كان تجريد محمد دحلان من جميع مواقعه السياسية، ثم إتباعه رئيس الوزراء السابق سلام فياض، وأخيراً إقالة ياسر عبد ربه من أمانة سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ومن يعلم من سيكون بعد ذلك. مؤسساتياً، كان إغلاق مؤسسة «فلسطين الغد» تبعه «تحالف السلام الفلسطيني» بعد ذلك؟ وحتى لغوياً، أصبح مصطلح «المال السياسي» كأحد مصطلحات هذا الصراع متداولاً في شكل واسع. ومن يطالع الصحافة الفلسطينية اليوم يلاحظ حالة الحشد والاستقطاب، حيث تعج صفحاتها بأخبار المبايعة للرئاسة سواء من المجالس البلدية أو القروية أو مخاتير العائلات أو غيرهم.
يخطئ الرئيس الفلسطيني كثيراً باستثمار نفوذه وما تبقى له من وقت في موقعه كرئيس للسلطة الفلسطينية، في صراعاتٍ داخليةٍ سواءً مع أشخاص أو تيارات أو فصائل سياسية أخرى كـ «حماس» أو غيرها. استثمار كهذا سيعزز الأنقسام إلى درجة يمكن أن تكون السمة الوحيدة لإرثه السياسي، ومن الممكن أيضاً أن تقضي على إنجازات مرحلة رئاسته، سواء على صعيد الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة أو بناء المؤسسات الداخلية.
لا ندري ما إذا كان هناك أصلاً تيار آخر يعمل ضد الرئيس الفلسطيني وإن وجد هذا التيار وأراد عباس مواجهته فهذه ليست الطريقة المثلى. مقاومة خصومه السياسيين تكون فقط بتصعيد المواجهة مع دولة الاحتلال ومنح الشعب الفلسطيني الأفق السياسي الذي فقده منذ فترة طويلة، ويكون ذلك بزيادة الحشد على الساحة الداخلية بتصعيد المقاومة الشعبية وعلى الساحة الدولية بالقيام بـ «انتفاضة ديبلوماسية» هادفة لزيادة مقاطعة دولة الأبارتايد وزيادة تغلغل فلسطين في المؤسسات الدولية. هذا التحرك على الساحتين الداخلية والدولية من شأنه إعطاء الفلسطينيين ذلك الأفق الذي هم في أمس الحاجة إليه، وإعطاء عباس النفوذ السياسي الذي سينهي الحرب مع خصومه السياسيين تلقائياً، فلن يكون بمقدور تيار معين مجابهة رئيس يحظى بشعبية عالية ويقود مشروعاً وطنياً تلتف حوله الجماهير الفلسطينية في الداخل والخارج، والأهم بالنسبة إلى عباس هو أن هذا النهج سيعزز إنجازات الدولة وبناء المؤسسات ويقلل من أثر سمة الانقسام في إرثه السياسي الذي سيتركه في ما بعد. من المتعارف عليه دولياً أن الصراع الخارجي يعمل تلقائياً على زيادة اللُحمة الداخلية في أي مجتمع ويحد إلى درجة كبيرة من التناقضات الداخلية، والحالة الفلسطينية ليست استثناءً لهذه القاعدة. حيث يمكن عباس الاستفادة منها بتصعيد المواجهة مع دولة الاحتلال على الساحتين الداخلية والدولية، الأمر الذي سيؤدي إلى محاصرة التيارات التي تسعى لتقويض سلطته كما يعتقد.
أصاب الرئيس الفلسطيني بتقديم استقالته من اللجنة التنفيذية، ولكن ليس بالدعوة إلى عقد مؤتمرٍ طارئٍ للمجلس الوطني يعاد فيه انتخاب الأعضاء أنفسهم باستثناء ياسر عبد ربه الخصم السياسي لعباس، والذي تم إعفاؤه من منصبه كأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فعوضاً عن الدعوة إلى دورة طارئة لا بد للمجلس الوطني من عقد دورة اعتيادية يمثل فيها الداخل والخارج الفلسطيني وتنتهي بانتخابات نزيهه للجنة تنفيذية جديدة يفوز فيها من يفوز. والأهم من ذلك أن يقوم المجلس الوطني بدورته العادية وتمثيله للكل الفلسطيني بصقل المشروع الوطني ليكون قادراً على التعامل مع المرحلة المقبلة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني.
دعوة المجلس الوطني إلى الاجتماع لإعادة انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية أنفسهم – ما عدا واحداً - هو استخفاف مبالغ فيه بالموقف الشعبي الفلسطيني من إجراءات كهذه وبالدور الوطني لمؤسسات منظمة التحرير، بغض النظر عن حقيقة ياسر عبد ربه ومواقفه وصراعه مع عباس. القضية ليست قضية عبد ربه، لكن استخدام مؤسسات وطنية كأداة لتصفية حسابات معينة ولتنحية خصوم سياسيين. الحديث أن هناك مؤامرة لا يكفي لزج مؤسسات وطنية في صراعات داخلية. حديثاً كتب المحلل السياسي البريطاني بن وايت عن لافتة معلقة في رام الله تناشد الشعب دعم الرئيس ضد «المؤامرات الداخلية والخارجية» كأن الفلسطينيين تفوقوا على إخوانهم العرب الذين لطالما تحدثوا عن «مؤامرات خارجية» تستهدف أنظمتهم ليزيدوا على ذلك بالقول أن هناك مؤامرات ليست خارجية فقط ولكن داخلية أيضاً.
الفرصة ما زالت سانحة أمام الرئيس عباس لشطب حالة الانقسام الفلسطيني التي ولدت في عهده عام 2007، من إرثه السياسي المستقبلي، وعوضاً عن ذلك يعمل على تجسيد حلم الدولة الفلسطينية كحقيقة قائمة على الأرض بالمواجهة مع دولة الاحتلال على الساحتين الداخلية والدولية. فهل يرغب الرئيس عباس عوضاً عن ذلك في أن يكون إرثه السياسي، إضافة إلى الانقسام، انتصار على ياسر عبد ربه وإخراجه من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؟


* أستاذ النزاعات الدولية في جامعة جورجتاون، زميل السياسات الخارجية في معهد بروكنغز في الدوحة

?English Title: What is the political legacy of President Mahmoud Abbas

S-CAR.GMU.EDU | Copyright © 2017